- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة النحل: بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ(2) ﴾
سورة النعم :
هذه السورة يسميها بعض العلماء سورة النِّعَم، لأن معظمها فيه حديث عن النِعَم الكبرى التي أنعم الله بها علينا.
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ
وأما في مطلعها فقوله تعالى:
الفائدة من استعمال الفعل الماضي للدلالة على المستقبل :
معنى:
﴿
ونادى: فعلٌ ماضٍ، ومثال ذلك:
﴿
حيثما استعمل الله -سبحانه وتعالى- الفعل الماضي مكان المستقبل فهذا يعني تحقق الوقوع، فالماضي والمستقبل عند الله سِيّان.
سائق السيارة إذا كان ينحدر بها في طريق هابطة، وهذه الطريق تنتهي بمنعطف خطِر، وعلى يمين الطريق وادٍ سحيق، وعلى يساره كذلك، واكتشف أن المِكبَح قد انقطع، هو يقول: انتهينا، تدهورنا، مُتنا، هذا يستخدم الفعل الماضي ليؤكد أن ما سيكون لا بد من أن يكون.
لو أن مستأجراً أجَّر بيتاً لا يحق له أن يُؤجّره، هو مستأجر، وصاحب البيت جاء بكشف فوري، وصوّر الحالة الراهنة، يقول المستأجر: أُخلِينا، لماذا استخدم الفعل الماضي؟ لتحقق الوقوع، إذا استخدمت الفعل الماضي لتحقق الوقوع، أي: إنه ما سيكون لا بد كائن، هذا هو المعنى، فربنا -عز وجل- يقول: ﴿أَتَى﴾ أي نَظَمَ المتوقع في سلك الواقع
أتى بمعنى اقترب ودنا :
معنى : أمر الله :
ما معنى كلمة:
﴿ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( حمزةُ أسدُ اللهِ، وأسدُ رسولِه ))
خالدٌ:
(( نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ،
ربنا -عز وجل- قال عن ناقة صالح:
إضافة الأمر لله للتهويل والتعظيم :
حينما أضيف الأمر لله -عز وجل- فهذه إضافة تفخيم وتهويل وتحقيق.
﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ
أي يأتي وعده ووعيده، ربنا -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(79) ﴾
حينما يعقد الإنسان العزم على فعلٍ ما، ويظن أنه ماضٍ في هذا الفعل، لا يدري أن الله -سبحانه وتعالى- أبرم أمراً آخر، فالمعوّل عليه هو أمر الله -سبحانه وتعالى-، الذي لا محالة واقع
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24) ﴾
أمر الله هو عقابه أيضا :
يعني إذا كان الأهل، إذا كانت الزوجة، إذا كان الولد، إذا كان الأخ، إذا كانت العشيرة، إذا كان المال، إذا كان المسكن، إذا كانت التجارة، أحبَّ إليكم من الله ورسوله، يعني إذا أطعتم زوجتكم، وعصيتم ربكم، فهي أحب إليكم من الله ورسوله، إذا أطعتم إخوانكم أو شركاءكم، وعصيتم ربكم، فهم أحب إليكم من الله ورسوله، إذا سايرت ابنك في معصية فابنك أحب إليك من الله ورسوله، إذا وافقت أباك على معصية فأبوك أحب إليك من الله ورسوله، إذا آثرت هذا البيت على طاعة الله، فهذا البيت أحب إليك من الله ورسوله، إذا آثرت هذه التجارة المُحرَّمة على رضوان الله -عز وجل-، فالمال المُتأتِّي من هذه التجارة أحب إليك من الله ورسوله، ماذا يكون إذا كان شيء ما أحبَّ إليك من الله ورسوله؟
إذاً: أمر الله ما وعد به العصاة، بعضهم قال: أمر الله عقابه، فربنا -سبحانه وتعالى- قال: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ بمعنى اقترب، فالمرابي : قل له: أتى أمر الله، يعني اقتربَ أن يدمر المال، بشِّر الزاني بالفقر ولو بعد حين، بشِّر كل عاصٍ بمغبّة معصيته ولو بعد حين.
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11) ﴾
لابد من أن تدفع الثمن غالياً، إذا كان هناك مخالفة.
مَن المخاطَب بقوله : فلا تستعجلوه :
(( اللهم خر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت. ))
الاستعجال خصلة ذميمة :
من علامة المؤمن أنه لا يستعجل الله شيئاً، لا يستبطئ فرجاً، ولا يستعجل عطاءً، يرى أن الأمر كله بيد حكيم، عليم، سميع، مجيب، لكن هذا الاستعجال الذي يستعجل به المشركون هو استعجال سخرية واستهزاء، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ(50) ﴾
وقال سبحانه:
﴿
غير المؤمن بالآخرة يستعجل هذا العذاب، يقول متى؟ ليأتِ العذاب.
﴿
المستعجِل للشيء غيرُ مؤمن به :
إذاً القاعدة: أن الذي يستعجل شيئاً غير مؤمنٍ به، إنما يستعجله استعجال سخرية، واستعجال استهزاء، لذلك ما كان لمؤمن أن يستعجل شيئاً، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ))
(( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. ))
فالاستعجال هنا من قِبَل الكفار، استعجال سخرية، واستعجال استهزاء، لذلك جاء قوله تعالى:
لماذا لا يعجِّل الله عباده بالعذاب ؟
لماذا لا يعجل الله عليهم بالعذاب؟ لماذا لا يعجل الله عليهم القصْم؟ هناك حكمة بالغة:
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى(129) ﴾
لولا أن الله -سبحانه وتعالى- خلق الخلق ليسعدهم، لولا أنه دعاهم ليعرفوه، دعاهم لعبادته، كلما وقع مخلوق في معصية قصمه الله -عز وجل-، ولكن لا يقصمه، لأن الله -عز وجل- لم يخلقه للقصم، إنما خلقه ليرحمه، لذلك يهمله، إمهاله إمهال رحمة، إن الله -سبحانه وتعالى- ينتظرهم، ينتظر أن يعبدوه.
إذاً: الإمهال حكمته أن الله -سبحانه وتعالى- يعطي مهلة، ويعطي فرصة لهذا الغافل كي يعود إليه، فيأتي هؤلاء، ويستعجلون العذاب سخرية واستهزاء، لكن الله -سبحانه وتعالى- قادر على أن يدمرهم بصيحة واحدة
سُبْحانه :
في الآية التفات بلاغي والفائدة منه :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ. ))
الشركاء لا ينفعون ولا يضرون :
﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82) ﴾
هذا الذي تعبده من دون الله ماذا يفعل؟ أحد الولاة كان عنده أحد التابعين، فجاءه كتاب من يزيد، هذا الكتاب فيه أمرٌ لا يرضي الله -عز وجل-، فقال هذا الوالي لذاك التابعيّ: ماذا أفعل؟ فقال التابعي كلمة تُكتَب بماء الذهب، قال: "إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله"
أحد الرواة قال: دخلت على حمَّاد في بيته، كان عالماً، صادقاً، عاملاً، دخلت على حمَّادٍ في بيته فلم أجد إلا حصيراً جالساً عليه، وبيده مصحف يقرأ فيه، وجِرابًا فيه كتب، ومطهرة يتوضأ منها، وليس في البيت أثاثٌ ولا رِياشٌ، فمكثت قليلاً وأنا جالس أفكر في هذا الرجل، وفي بيته، فبينما أنا جالس دُقَّ الباب، فقال حمّاد لبعض إخوانه: اخرجْ، وانظر من الطارق؟ فقال: رسول من سليمان إلى حماد من أمير المدينة، فأذن فدخل، فقال أما بعد: فصبَّحك الله بما صبّح به أولياءه وأهل طاعته، وقعت مسألة فَأْتِنا نسألك عنها، والسلام، وظن هذا الرسول رسول الأمير أن حمّادًا سيستجيب له، وسيفرح بهذه الدعوة، لكنه قال له: اقلب الكتاب، واكتب على ظهره، أما بعد: فأنت صبّحك الله بما صبّح به أولياءه، وأهل طاعته -يوجد أدب- إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً، فإذا وقعت لك مسألة فأْتِنا، وسل ما بدا لك، ولا تأتِ بخيلك، ولا برَجِلك، أي تعال وحدك، وصلَ هذا الكتاب كتاب الشيخ حمّاد إلى أمير المدينة سليمان، فتسرّب لقلبه إخلاص حماد، وعزته للعلم والعلماء، وجاء يسعى إلى دار حماد، ليسمع الفتوى، وينزل بمجالس العلماء، التي تحيا بها القلوب، وينجلي صداها، فدُقَّ الباب، فقال لأحد إخوانه: انظر من الطارق؟ فعاد وقال: سليمان أمير المدينة، فقال: لِيدخل وحده، فدخل سليمان غرفة حماد، وقد علت هيبته هيبة المُلك، لا يدري من أين تسرّبت إليه؟ وجلس محتشماً متهيِّباً كأنما هو أمام ملك، عظيم، مَهيب، ثم قال وهو يتلعثم في كلامه: "ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رهبة"؟ فقال حماد: "إذا أراد العالم بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد بعلمه الدنيا هاب كل شيء"، والقصة لها تتمة.
على كلٍ:
أطع أمرنا نرفع لأجلك حُجبنا فإنا منحنا بالرضا من أحبنـا
ولُذ بحمانا واحتمِ بجنابنــا لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
ثم يقول الله -عز وجل-:
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
من رحمة الله إرسال الرسل :
الله -سبحانه وتعالى- المُنزَّه عن الشرك لا يدَع الناس إلى ضلالهم، وأوهامهم وشقائهم، إنما يُنزِّل عليهم من السماء ما يحييهم وينجيهم، كما أن الله -سبحانه وتعالى- ينزّل من السماء ماء ليحيي به الأرض بعد موتها، كذلك ينزل من السماء روحاً من أمره ليحيي القلوب بعد موتها، ماء السماء يحيي الأرض بعد موتها، ورسالات الأنبياء تحيي القلوب بعد موتها.
القرآن روح :
هنا -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99) ﴾
وقلنا وقتها: إن اليقين هو الموت، وقلنا وقتها: إن الله -سبحانه وتعالى- سمّى الموت يقيناً لتيقُّن وقوعه، ولأن فيه اليقين، يعلم المرء عند الموت علم اليقين، كذلك كان من الممكن أن يقول الله -سبحانه وتعالى-: ينزل الملائكة بالقرآن، الروح هنا القرآن، لماذا قال: الروح؟ هذه تسمية هادفة، سمّى الله -سبحانه وتعالى- القرآن روحاً؛ لأنه حياة للقلوب، البيت الذي ليس فيه قرآن كالبيت الخرِب، وفي الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ ))
وفي الأثر:
﴿
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1) ﴾
الكون في كفة، والكتاب في كفة، وما دام الله -سبحانه وتعالى- قد خلق الخلق فلا بد من أن يرشدهم، قد يُشَقُّ الطريق، ويُفرَش أرضه بالإسفلت، وبعد ذلك تُوضَع الإشارات الدالة على معالمه، خلق الله السماوات والأرض، وأرشد الخلق إلى طريق الحق
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)﴾
الكون في كفة، وهذا الكتاب في كفة، قد ترى جامعةً ضخمة، فيها أبهاء، وقاعات، ومخابر، وحدائق، ومكتبات، ولها نظام داخلي، هذا النظام الداخلي لا يقل خطورة عن الأبنية الخارجية، فربنا -سبحانه وتعالى- لأنه مُنزَّهٌ عن الشرك، لأنه حريص على هداية خلقه، لأنه خلق الإنس والجن ليعبدوه، لأنه خلقنا ليرحمنا، نزل علينا قرآناً هو بمثابة الروح لنا، الإنسان من دون دين جسمٌ بلا روح، نفسه مُؤثِرة، قلبه قاسٍ، تستوحش منه، يعيش ليأكل، ويشرب، ويتمتع، ليس له هدف نبيل، اهتماماته سطحية، وتافهة، فلذلك قال الله -عز وجل-:
من تمام النعم نعمة الهدى :
قالوا: تمام النعمة الهدى، يعني النِّعَم كلها إذا كنت مهتدياً إلى الله -عز وجل- فيمكن أن نرمز لهذا الهدى بواحد، فإذا كان معك مال يعينك على أن تعيش في الحياة، فهذا المال صفرٌ أمام الواحد، إن كانت لك زوجة تعينك على أمر دينك، فالزوجة صفر آخر، إن كان لك مأوى تُؤوي إليه، فهذا المأوى صفر ثالث، إن كان لك مورد رزق مريح، فهذا صفر رابع، فإذا ألغيت الواحد، كل الذي عندك أصفار، العلماء قالوا: تمام النعمة الهدى، من دون الهدى ليس هناك شيءٌ اسمه نعمة.
﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27) ﴾
نَعمة، ليست نِعمة، بل هي نقمة.
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾
شيءٌ آخر، قال تعالى:
﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
إذاً أنجاه من البئر، من الجُبِّ، أخرجه من السجن، لكن تمام النعمة أن يكون المرء مهتدياً إلى الله -سبحانه وتعالى-.
النبوة مقام اختيار واصطفاء :
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)﴾
الله اصطفاهم، اختارهم على علم، فمقام النبوة، مقام اصطفائي، الله -سبحانه وتعالى- نظر في عباده نظرة، اصطفى منهم أكثرهم حباً له، أكثرهم حمداً، أكثرهم قرباً، أكثرهم نفعاً، فجعلهم أنبياء مُصطَفَيْن على من يشاء من عباده، والنبي أيّ نبيٍ لا يزيد على أن يكون عبداً لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، هم قالوا:
﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31)﴾
هم رشّحوا أناسًا من عليّةِ القوم لينزَّل القرآن عليه، لكن الله -سبحانه وتعالى- أعلم حيث يجعل رسالته.
إنزال الملائكة للإنذار والتبشير :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ
التوحيد هو أصل كل شيء :
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56) ﴾
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(3) ﴾
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
الكون مخلوق لحكمة بالغة :
أذكركم ثانية بكلمة الحق التي وردت قبل درسين،
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116) ﴾
الكون دليل على وحدانية الله :
الملِك الحق، دليل على عظمة الله -سبحانه وتعالى-، وعلى وحدانيته، وعلى أنه خلق السماوات والأرض بالحق.
كلنا نمشي على الأرض، وكلنا ندخل أحياناً بعض الأراضي الزراعية، نرى تراباً قد أنبت عشباً، أو كلأً، أو محاصيل، أو خضراوات، أو أشجارًا مثمرة، فيا تُرى من منا يصدق أن هذا التراب الذي نطؤه بأقدامنا فيه عوالم من الكائنات الحية لا يعلمها إلا الله؟
في مقالة عن التربة الزراعية وما فيها من كائناتٍ حية شيءٌ لا يُصدَّق، ذكرته في خطبة الجمعة، ورجاني أحد الإخوة أن أعيده في هذه الدرس، ففي المتر الواحد المكعب من التربة الزراعية ما يزيد عن مئتي ألف من الديدان العنكبية، وفي المتر المكعب الواحد من التربة الزراعية فيه ما يزيد عن مئة ألف من الحشرات الفَرَويَّة، وفيه من مئتين إلى ثلاثمئة من الديدان العادية (الدود الصغير) وفي هذا المتر المكعب من التربة الزراعية آلاف الملايين من الجراثيم، والكائنات المتناهية في الدقة والقُرَّاضيّات، من منا يصدق أن غراماً واحداً من هذه التربة فيه ما يزيد عن عدة مليارات من البكتريات، عند الصيدلي يوجد قطعة نحاس مربعة لا تزيد أبعادها عن ميليمترات، هذه هي الغرام، فغرام من التربة فيه بضعة مليارات من البكتريات، يوجد بكتريات على شكل عصيات، بكتريات على شكل كريات، بكتريات على شكل حلزونيات، يوجد بكتريات تحتاج إلى أوكسجين، هناك بكتريات لا تحتاج إلى أكسجين، هناك بكتريات عارية، هناك بكتريات لها أهداب تنتقل عبرها، في الغرام الواحد من التربة الزراعية فيه ما يزيد عن عدة مليارات من هذه البكتريات، شيءٌ غريب أن هذا المتر المكعب فيه مئتا ألف ديدان عنكبية، مئة ألف حشرة فروية، مئتان إلى ثلاثمئة دودة، آلاف الملايين من الجراثيم والكائنات المتناهية الدقة، وفي كل غرام من هذه التربة بضع مليارات من البكتريات، هذا مصنع يعمل بنشاط عجيب، لكن حتى الآن لم يعلم العلماء خطورة، أو مهمة، أو طبيعية عمل هذه الكائنات، لقول الله -عز وجل-:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
ولقول الله -عز وجل-:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ
فقالوا: إنها تقوم بمهمات من أكثر المهمات غموضاً، واستغلاقاً، وإن هذه الكائنات الحية في التربة الزراعية تقدم نفعاً يكاد يكون نفعاً مصيرياً، لو أنها توقفت عن العمل لتوقفت الحياة كلياً، وهذه الكائنات الدقيقة تلتهم الأوراق المتساقطة، الله -عز وجل- جعل لأوراق الأشجار عمراً، حينما ينتهي عمرها تتساقط، تأتي هذه الكائنات فتلتهم هذه الأوراق، وتأتي كائنات أكبر منها تلتهم فضلاتها، وتأتي كائنات أكبر منها تلتهم فضلات الثانية، بحيث تصبح هذه الورقة بعد حين سماداً عضوياً للتربة، فهذه الأوراق الخضراء تقوم بعملية حيوية، هي عملية التنسيب، والتحليل الضوئي، إن هذا الغذاء الذي نأكله، بعضه من الشمس، وبعضه من غاز الفحم، الذي أودعه الله في الجو، وبعضه من الماء، لذلك لا نبات من دون ضوء، مواد النبات تأخذها من الأوراق، فالأوراق كأنها معامل، تقدم للنبات غاز الفحم الذي تأخذه من الهواء بالتعاون مع أشعة الشمس، هذه الآيات ما منا إنسان إلا ويأكل شيئاً عن طريق النبات، حتى لو أكل اللحم، أصل اللحم، ماذا يأكل الحيوان الذي نأكله؟ النبات، فالنبات أساس الحياة، والله -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ(80)﴾
الشجر الأخضر؛ كيف نوقد هذا الشجر الأخضر؟ هناك سؤال، لا يوقد الشجر إلا إذا كان يابساً، لكن بعضهم قال: إن الشجر الأخضر كناية عن أن الشجر لولا أوراقه الخضراء لما كان شجراً، يعني أوراقه الخضراء هي التي تسهم في صنع النبات، وفي تكوين بنيته الأساسية، على كلٍ هذه الآيات الدالة على عظمة الله -سبحانه وتعالى- بثّها الله في الأرض، فتفكّروا في خلق السماوات والأرض لأنه باب واسع لمعرفة الله -سبحانه وتعالى-.
الملف مدقق